لم تُغلق أبواب المدارس في سوريا عبثاً، بل كانت نتاجاً لتدميرٍ ممنهج بدءاً من القصف والاستهداف المباشر بالأسلحة الثقيلة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الأسد، ومحاولات تحويل المدارس لأداة إخراج أجيال تحمل توجهات النظام في المناطق الخاضعة لسيطرته،حتى أن الأمر تعدى الناحية التعليمية لتتحول المدارس إلى ملاجىء للنازحين المُهدمة بيوتهم أو المحتلة، مما أفضى إلى خوف أو عدم إمكانية الأهالي من إرسال أطفالهم خشية فقدهم أو خطفهم.
وبعد 12 عاماً من انطلاقة الثورة، نجد أن 2.5 مليون طفل في عموم البلاد و318 ألف طفل في شمال غرب سورية خارج إطار المنظومة التعليمية وذلك بحسب تقرير منسقو استجابة سورية، حيث توجه بعضهم إلى العمل أو التسول أو الانخراط بالعمل المسلح أو حتى تعاطي المخدرات، ما أدى إلى تدمير جيل كامل فقد حقه في التعليم وانحرف مساره بشكل سلبي مما أثّر على الحراك الثوري والتعافي المبكر في سورية ككل وشمال غرب سورية بشكل خاص.
نتساءل اليوم وبعد كل الأزمات التي عايشناها ومازلنا، ما هو مستقبل الأطفال السوريين الذين تسربوا من التعليم لسنواتٍ طوال؟ هل تصبح الأمية ظاهرة منتشرة في سورية بعد سنوات؟ كيف سيتم بناء المجتمع السوري بجيلٍ لم يعش سوى الحرب والنزوح؟ كيف لجيلٍ بعيد عن التعليم أن يطالب بحريته وحقوقه وفرض نفسه؟ ما دورنا اليوم أمام هذه الكارثة؟
في البداية علينا تسليط الضوء على أسباب التسرّب المدرسي في سوريا، وهنا نتحدث عن البنية التحتية والتدهور الاقتصادي والمناهج التعليمية والوعي المجتمعي، حيث تؤثر كلٌّ منها على سير العملية التعليمية وخروج الأطفال عن سكة التعليم بشكلٍ مؤقت أو دائم.
البنية التحتية:
حتى مارس 2022؛ وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، تضرر أكثر من 1,597 مدرسة، تعرّض بعضها لأكثر من اعتداء، متهمة النظام السوري بتعمّد استهداف المنشآت التعليمية، أما منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) تتحدث عن وجود أكثر من 4 آلاف مدرسة تعرضت للتدمير الكلّي أو الجزئي، بنسبة تشكّل نحو 40 في المئة من إجمالي عدد المدارس في سوريا، ومنذ عام 2014 وحتى 2019، تحققت الأمم المتحدة من 385 هجوماً على المرافق التعليمية واستخدام أكثر من 50 مدرسة لأغراض عسكرية.
كما أن القصف الممنهج على المدن والأحياء السكنية أجبر السكان على النزوح أو إخراج الأطفال من المدارس المتضررة والبحث عن التعليم البديل أو إدخالهم في سوق العمل.
التدهور الاقتصادي:
فقدت الليرة السورية %99.3 من قيمتها منذ عام 2011، عندما كان الدولار يساوي 49 ليرة سورية، حيث يساوي الآن 12,000في تدهور، أدى هذا الانخفاض في قيمة الليرة السورية بزيادة أسعار السلع بمختلف أنواعها بالإضافة إلى غلاء الطبابة والأقساط المدرسية والجامعية الخاصة والمواصلات والمحروقات، ما أسفر عن شرخ واضح بين دخل الفرد والمصاريف اليومية، والذي أدى تلقائياً لخروج العديد من الأطفال والكوادر التعليمية من المدارس وانتقالهم إلى بيئة العمل لمساعدة ذويهم في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية القاسية.
المناهج التعليمية:
مازالت أساليب التعليم في المدارس السورية تقليدية، كما أن المناهج تفتقر للتعليم الحديث والأسلوب التفاعلي، إذ تعتمد على السرد والحفظ بشكل كبير بعيداً عن أدوات التعليم التفاعلية والتكنولوجيا الحديثة، وبعد كل هذه السنوات من التسرب المدرسي وانقطاع آلاف الطلاب عن التعليم لا نجد اليوم مناهج متكاملة تراعي هذا الانقطاع وتتكيف مع واقع النزوح والفقر والجهل الحاصل، وتدمج بين التعليم والصحة النفسية وتوعية الأهالي على ضرورة إلحاق أبنائهم بالمدارس والتعليم التعويضي، كما يجب التنويه على أهمية تطوير الكوادر التعليمية وتدريبها ورفع القدرات بناءًا على الأساليب العالمية الحديثة بما يتناسب مع الوضع والمجتمع السوري.
الوعي الاجتماعي:
بعد 12 عاماً من التهجير القسري والقتل الممنهج والنزوح والتدهور المعيشي للسوريين، أصبح التعليم ضمن الأولويات المنسية في المجتمع حيث تم استبداله بالعمل أو الزواج المبكر، لذلك لا نجد الإرشاد الكافي من قبل الأهالي لأطفالهم بما يتعلق بأهمية التعليم وضرورته لبناء مستقبل أفضل وتحسين الوضع على مستوى الأفراد والمؤسسات والبلد ككل.
ما دورنا في تطوير المنظومة التعليمية؟
نعمل في المنتدى السوري على دعم العملية التعليمية في شمال غرب سوريا منذ سنوات، في عام 2022، تم الوصول لأكثر من 96 ألف مستفيد من الطلاب والمدرسين من خلال إعادة تأهيل 59 مدرسة وبناء وإعادة تأهيل 72 فصلاً دراسياً وتزويد 49 مدرسة بالأثاث فضلاً عن توزيع أكثر من 1,44 مليون دولار من الرواتب على 946 كادر تعليمي وإداري، بالإضافة إلى توزيع أكثر من 44 ألف حقيبة مدرسية وتعليمية لأكثر من 13,000 طالب.
بعد عملنا الطويل في قطاع التعليم بسوريا، نعمل اليوم على بناء نموذج تعليمي مميز يهدف إلى توفير تعليم شامل للطلاب السوريين مع التركيز على الأيتام ضمن مجمع تعليمي يشمل 3 مدارس نموذجية يتم بناؤها في إعزاز حالياً بالإضافة إلى مركز لدعم الأسرة وأكاديمية لتأهيل المعلمين، كما نسعى لبناء 7 مدارس أخرى في مناطق شمال غرب سوريا مع نهاية عام 2025، ذلك لإيماننا أن الخروج من مرحلة الاستجابة الإسعافية للوضع السوري والانتقال لمرحلة التعافي والتنمية سيكون محركاً أساسياً لإنهاء الأزمة الحالية وتحسين الوضع السوري.
نولي اليوم أيضاً أهمية قصوى للتعليم التقني والتكنولوجيا في شمال غرب سوريا، من خلال برنامج دُلّني؛ والذي يعمل على تدريب الشباب على احتراف العديد من التقنيات الحديثة للدخول إلى سوق العمل من خلال برامج تدريب مكثفة وخلق شبكة تواصل بينهم وبين الشركات العالمية الخارجية لإيجاد فرص عمل بعد الانتهاء من المخيم التدريبي، كما نُعلِّم الأطفال في مراكز حماية الطفل على استخدام أقلام الـ 3D التي تعزز قدراتهم الإبداعية والتفكير الهندسي وتحوّل أفكارهم وخيالهم إلى واقع من خلال إنشاء تصاميم ثلاثية الأبعاد وتساعدهم على معرفة التعامل مع التقنيات المتقدمة وتعزيز التعاون والتعلم العملي ، ونُدرب الفتيات اليافعات في مراكز حماية المرأة على برمجة الروبوت لتطوير مهاراتهم وتحسين حالتهم النفسية من خلال التقنيات الحديثة وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتطوير المؤسسات السورية مستقبلاً بفضل جيل متعلم على أحدث التقنيات العالمية.
لتطوير العملية التعليمية لابدّ من تحسين الظروف المعيشية للأفراد السوريين، لذلك نعمل في المنتدى السوري على تطوير برامج فعّالة في التمكين الاقتصادي بما يشمل دعم المشاريع الصغيرة والتدريب على إدارة المشاريع والدعم المادي للعوائل والفئات الضعيفة بالإضافة إلى تقديم جلسات توعية عن أهمية التعليم ومخاطر التسرب المدرسي.
ختاماً نؤمن اليوم أن التعليم هو أساس النهضة السورية والتحرر من الاستعباد والظلم الحاصل على مدار السنين الماضية، وأي إهمال للمنظومة التعليمية يسبب تأخيراً في عملية إعادة الإعمار والتطوير المؤسساتي في الدولة ويؤدي حتماً إلى دمار أجيال أكثر، لذلك يُعد التحرك والعمل في هذا القطاع اليوم من المُسلّمات ويجب أن لا نناقش أن أهمية التعليم تساوي أهمية الغذاء وجميع القطاعات الإنسانية الأخرى، بما في ذلك بناء المدارس وإعادة ترميمها وبناء قدرات الكوادر التعليمية وتفعيل التعليم التفاعلي التعويضي والتعاون بين جميع الجهات والمنظمات لضمان نجاح عمل المؤسسات التعليمية.