من أصعب المشاعر الإنسانية تلك التي تمتزج بين القلق واليأس، خاصة عندما يتعلق الأمر بمصير أحبائنا. كيف لنا أن نصف الألم الذي يعتصر قلوب الأمهات، والآباء، والأطفال الذين يجهلون مصير أحبائهم المختفين؟ يتجسد هذا الشعور في ظاهرة الاختفاء القسري، التي تُعتبر واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، تاركة وراءها أسرًا محطمة وذكريات مشوشة، وقلوبًا تنتظر بصيص أملٍ لعودة من تحب.
الاختفاء القسري ليس مجرد حدث عابر، بل هو معاناة متواصلة تعصف بأرواح الضحايا وعائلاتهم على حد سواء. هذه الجريمة تتجسد في احتجاز أو اختطاف الأشخاص من قبل الدولة أو جهات أخرى بموافقة ضمنية أو صريحة من السلطات، دون الكشف عن مكانهم أو مصيرهم. إن غياب المعلومات يترك عائلات الضحايا في حالة من الضياع والهلع، حيث تظل التساؤلات بلا أجوبة، والتوقعات بلا نهاية.
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2010 تخصيص يوم 30 أغسطس من كل عام كيوم دولي لضحايا الاختفاء القسري، وذلك لإلقاء الضوء على محنة ملايين الأشخاص حول العالم الذين فقدوا أثر أحبائهم. هذا اليوم ليس مجرد ذكرى، بل هو دعوة لتذكير العالم بأن هذه الجريمة لا تزال تُمارس على نطاق واسع، وأن هناك حاجة ملحة لمحاسبة المسؤولين عنها وتقديم الدعم اللازم للضحايا وعائلاتهم.
جريمة الاختفاء القسري لا تقتصر على الأبعاد الجسدية فحسب، بل تمتد لتشمل تأثيرات نفسية واجتماعية مدمرة. فالأمهات اللاتي ينتظرن عودة أبنائهن، والآباء الذين يبحثون في كل وجه عابر عن لمحة من أحبائهم، يعيشون في دوامة لا تنتهي من القلق والاضطراب. يتسلل الألم إلى كل زاوية في حياتهم اليومية، ويجعل من كل لحظة تمر ذكرى مُرة ومليئة بالحزن. بالإضافة إلى ذلك، يؤثر الاختفاء القسري على النسيج الاجتماعي، حيث يتسبب في تآكل الثقة وزيادة الشعور بالخوف وعدم الأمان داخل المجتمعات.
رغم الجهود الدولية الرامية إلى مكافحة هذه الجريمة، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق العدالة. تم اعتماد "الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري" في عام 2006، والتي تعتبر أن هذه الجريمة ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. كما أُسس تحالف دولي يضم منظمات غير حكومية وأسر المختفين، يهدف إلى تعزيز الوعي الدولي وتقديم الدعم للضحايا. ومع ذلك، تظل هذه الاتفاقيات والتدابير غير كافية إذا لم تُرافقها إرادة سياسية قوية لتطبيقها وملاحقة الجناة.
تعتبر سوريا واحدة من أكثر الدول التي عانت من هذه الجريمة. منذ بداية النزاع السوري، استخدم النظام السوري الاختفاء القسري كسلاح ضد المعارضين، مما أدى إلى اختفاء آلاف الأشخاص. ملف "قيصر"، الذي سُرّب ليظهر صور ضحايا التعذيب والاختفاء القسري، هو شاهد حي على وحشية هذه الممارسات. العائلات السورية اليوم لا تزال تبحث عن إجابات، تبحث عن الأمل في العثور على أحبائها، حتى ولو كان مجرد أثر.
يأتي اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري كتذكير بضرورة العمل الجماعي لإنهاء هذه الجريمة. إنه نداء للضمير الإنساني للوقوف مع الضحايا وأسرهم، وللضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية لضمان محاسبة المسؤولين وتقديمهم للعدالة. علينا أن نتذكر أن الإنسانية لا تُقاس بالتقدم التكنولوجي أو الرفاه الاقتصادي، بل بقدرتنا على الوقوف إلى جانب المظلومين والدفاع عن حقوقهم.
الاختفاء القسري جريمة تنتهك ليس فقط حقوق الأفراد، بل تُدمّر نسيج المجتمع بأكمله. إن كل يوم يمر دون معرفة مصير المختفين يزيد من آلام عائلاتهم ويُفاقم من معاناتهم. لذا، يجب علينا جميعًا أن نكون صوتًا للذين لا صوت لهم، أن نكون نورًا يُضيء درب البحث عن الحقيقة والعدالة. فلنجعل من هذا اليوم الدولي منطلقًا لتجديد التزامنا بالعمل على إنهاء هذه الجريمة ومناصرة ضحاياها حتى يعرف العالم أن صمت الألم يجب أن يُكسر، وأن الحق لا يُضيع مادام وراءه مطالب.
محمد مجد الحاج أحمد - مشرف أنشطة قانونية في قسم تمكين المجتمع في المنتدى السوري